لَعنَةٌ غَجَريَّة
.
إلَى: مَسَاءٍ دَافِئ يَطوِي فِي رِدَائهِ وَجهكَ المَوبُوءَ بِابتِسَامةٍ حُبلَى فَرِحَةٍ بِقُبلةِ زَهرةٍ لا تُشبِهُنِي؛ وَلا تُشبِهُك.
فَنُّ الكِتَابةِ مِن أكثَرِ الأمُورِ صُعوبَة؛ كَالعَثرةِ فِي طَريقٍ وَعر.. هَذَا إن كَانَ مَن نُحاولُ الكِتَابةَ إليهِ شَخصٌ غَريب؛ وَرُبّما مَجهُولٌ تَمامًا.
الكِتَابَةُ إلى صَدِيق؛ أكثَرُ صُعوبَة؛ لأنَّكَ تَتعثَّرُ وَالطّرِيقُ سَالك.. قَدمَاك تَخُونَانك!
وَحِينمَا أكتُبُ إليك؛ فَإنِّي أتَردّدُ ألفَ مَرّةٍ أيّ عِطرٍ ألوّن بِهِ أحرُفِي؛ وَأيّ قِنَاعٍ أُلملِمُ فِيهِ كَلمَاتِي. وَأنتَ الذِي لا تُغرِيكَ رَائحَةُ الحُبِّ؛ وَلا أوجُهُ الجمَالِ عَن اِستبطَانِ يَدكَ جَوفَ المَاء!
تَسلِبُ مِنهَا الحَقيقَة كَمَا تنقَضّ القِطّة عَلى طَائرٍ مُعيّن فِي سِربٍ عَلى الشَّاطِئ؛ يُغنّي.. وَمَا بَات الغِنَاءُ إلا رِثَاءً لأروَاحِ المُحبّين.
إلَى صَدِيقٍ يُشبِهُ الأربِعَاءَ فِي حُضورِه؛ يَأتِي المَدِينَة الخَاوِيَة مِن هَمسَاتِ البَسَاتِين، يَرتَدِي قُبّعتهُ السّودَاءَ.. وَيُخفِي تَحتَ ظِلّهَا يَدًا مَفضُوحَة الحَنِين إلى وَجهِي.
يُنقِّبُ فِي السَّرَابِ عَن وَجهِ غَجرِيّةٍ ثَوبُهَا المَاء، وَشَعرُهَا اللّيلُ يَمتَدّ مِن أقَصى شَهِقتهِ حتّى شَهقَته!
إلَى صَدِيقٍ وَدّعَ المَدِينَة بِقَضمَةِ تُفّاح؛ وَزَرعَ بُذورَهَا عِندَ سَاقِيةِ المَنزل.
جَنِينُ قَلبِي يَدفَعُنِي لنَبشِ قَبرِ غِوَايتكَ التِي زَرعتهَا فِي بَوَّابةِ وَجهِي؛ عَلِّي أجِدُ مَا بَينَ الثّنَايَا قُبلَةً لِلأرجوَانِ الظّمِئ مُنذُ لَعنَت عَرَّافَةُ قَريتِنَا سَاقِيَ العَارِيّة عِندَ النّهرِ بِجَانبِ عُمدَةِ قَريتنَا.
قَد قَالَت لِشُبّانِ قَريَتِنَا الخَريفيّة العُقول: أنِّي فَتَاةٌ مَلعُونَة مُذ مَسّت بَنان عُمدَتِنَا سَاقِي. وَكشَفَت عَن جُرحِ الكَامِيليَا فِيهِ؛ لا يَشفِيهِ إلا نَبضُ المَاءِ فِي جَوفِ الجَحِيمِ؛ وَضِمَادَةٌ مِن وَرقِ توتِ حَدِيقَةِ مَنزِله.
وَدَفَنُوا حُدودَ مَنزِلِي بِأشبَاهِ الأسَاطِير؛ وَقد قَالُوا.. كمَا قَالوا؛ أنِّي زَنبَقةٌ تُهدَى إلى المَوتَى، وَأنَّ قُبلَةَ الزّنبقِ مِشنَقَة، وَمَاءهَا إعدَام فِي لَوحٍ تَمدّدَ بِجَانبِ شَجرَةِ تُفّاحك.
يَومهَا لَعنُوكَ أيضًا يَا صَدِيقِي؛ وَقَالُوا؛ أسِيرَتُنَا الجَمِيلة، لا تَغُدو أسِيرَة.. إلا بِغَجرِّي فِي ظَهرِهِ نَبتَ حُبّ الأرَقِ؛ وَصَدرِهِ عَجزُ الضِّيق؛ وُكُلّ وَجهِهِ مَرسُومٌ بِغُبَارِ النّعنَاعِ.. مَجرُوحٌ فِي خَدّهِ الأيمَن؛ وَعيونُه تَسجُدُ لَهَا الجَمِيلات إلا أسِيرتنَا!
صَدِيقِي؛ أي مَاذَا أقُولُ وَ.. نَحنُ غَجريَّانِ مَلعُونَان؟
لَا زِلتَ كَمَا أنتَ، أستَنِجِدُكَ بِإجَابَةٍ تُهدِينِي حَيرَة!
أرسِمُ حُزنًا عَلى وَجهِي؛ فَتُمرّرُ رِيشَتكَ عَلى خَديّ لأبتَسِم!
صَدِيقِي؛ أيَا غَجريًّا حُلّت بِوِلادَتِهِ لَغنَتِي لَو عَلِمُوا، نَبَشتُ سَاقَ التّفَّاحِ هَذَا المَسَاء، وَأقَبرتُ فِي ذَاتِ الشّموخِ اِنحسَار.
صُندُوقٌ مِنَ الخَشَبِ البَالِي، اِمتلَأ بِوريقَاتٍ صَغِيرة، كَأورَاقِ شَجرِ الكَرزِ عِندمَا تَتسَاقَط.
إنّها قُبل المَشَاعِرِ مِن صَبِي أحمَق؛ يَدنُو مِن مَنزلِي يَا صَدِيق!
لا يَأبَهُ للعنَة، وَلا يَفقَهُ مَعنَى السَّيلِ إن حَصَل.
هَذَا الصَّبَاحُ استَيقَظتُ وَعَلى نَافِذتِي طَبعَ كَفّهُ المُلطّخَةِ بِالطِّين، وَمَا بَينَ شَفتَي الشّباك.. شَرِيطَةٌ بَيضَاء، بِدَاخلهَا وَرَقةُ تُوتٍ مَنقُوسَةٌ بِغُصن الزّيتُون.
أنتِ أجمَلُ بِالبيَاضِ!
يُذكِّرُنِي بِرَعشَةِ جَسدِي عِندَ نَهرِ العُمدَة، حِينمَا هَمسَ لِي آنَ الجُرجِ: أنتِ أجمَلُ بِثَوبٍ أبيَض!
أُخبِركَ سِرًّا صَدِيقِي؟
وَكم تُغوِينِي قَافِلاتُ الرّغبَةِ بِقُبلَةٍ مِنهُ قَد تُحيينِي، وَقد تَقتُلنِي ألفَ ألفَ مَرّة.
كَم أتَمنَّى: لَو أنَّ الرَّقصَةَ تَبدَأُ، دُونَ أن تَنتَهِي!
إلَى الصَّدِيقِ الذِي كَانَ يَجِبُ أن يَطرُقَ بَابَ المَدِينَةِ مُفسِدًا طَقسَ اللعنَةِ هَذَا المَسَاء.
حَاوَل المَجهُولُ نَبشَ قَبرِ التّفاحِ هَذهِ الليلَة، رأيتُ القَمرَ فِي حَيرَةٍ يَفضَحُ وَجهَه أمْ يَستَتِرُ عَلَى ظِلّ ثُوبِيَ المُتدلّي مِن غُصنهَا العَظِيم!
كَانَ يُشبِهُ العَرّافِينَ فِي هَيئتِه، تَنبَلِجُ مِن سُترَتِه الأضوَاءُ المُتَطايرَة بِرقصَةٍ مَعَ حَفِيفِ الشّجَر. وَلونُهُ شَيءٌ مُختَلِف، لَيسَ كَالحَلِيبِ فقَط، وَلا كَالصّبَاحِ إذ أشرَق!.. لَونُهُ نُعومَةٌ طفُولِيّة مُشعّة.. تَسرّ النّاظرِين!
وَصفحَةُ وَجههِ أمسَكهَا الظّل لَه، هَامسَتهُ الغَيمَات أنّهَا تَدورُ فِي حَلقاتٍ مَع القَمَر!.. إن سَكنَ وَجهه، فستُجهِضُ مَطرَهَا.
لِلا شَيء يَحتَوِينِي دفئًا، كُلّ النّسمَاتِ عَاقرَت البَرد.. وَكُل خُيوطِ ثَوبِي ثَمِلت! وَيحهَا وَويحِي.. إذْ رَكضَت كَالصّبيةِ تَلهُو مَع النّسيمِ، وَتَلفّهَا حَولَ يَدِ تُفّاحةٍ تَختَلِس النّظرَ إلَى مَجهولِنَا الأبيَض!
أُستَودِعُكَ نَبضًا صَدِيقِي؟
عَلّقَ فِي طَرفِ ثَوبِي شَغفَ التّلصّصِ عَليه؛ حَتّى رَغِبتُ بعَودتهِ الخَرِيفيّة.
صَدِيقِي؛ رَأيتُهُ هَذهِ الليلَة يَتسَلَّلُ إلى سُورِ مَنزلِي، مِثلَ قِطٍّ هَارب؛ يُشبِهُكَ فِي قَفزَاتهِ المَجنُونَة المَليئَةِ بِالشّوقِ لِغَيمَةٍ بَارِدَةٌ فِي دِفئهَا.
هَذهِ الليلَة رَأيتهُ عِندَ السَّورِ لَم يَتحرَّك؛ يُطَالِعُ نَافِذَتِي.. يَترَقَّبُنِي رُبَّما وَالظَّلامُ دَامِس.
ذَكّرنِي بِأحمَقٍ كَانَ يَرتَدِي قُبّعتهُ السّودَاء، وَيَهُمّ بِالعَزفِ عَلى وَترِ الوَجع؛ يُنَادِينِي.
يَجلِسُ عِندَ زَهرِ اليَاسَمِينِ يُسَامِرُهَا حِينَ يُشَاغِبهَا القَمرُ ذَاتَ أرَق؛ يُدَاعِبُ بَتلاتِهَا كَخدِّ طِفلٍ أشقَر.
وَحِينمَا يَتحَرَّك، يَترَاقَصُ خِلخَالِي فِي قَدمه!
تَذكُركَ، ألَيسَ كَذَلك؟
حَالمَا تَدُسّ يَدكَ فِي جَيبِ شَعرِي؛ وَتُغرِقُ عَينَيّ فِي لُجّةِ صَمتك!.. حِينمَا تَجذبُ اِنحنَاءَة الوَردِ لِخَاصِرتكَ، وَتَرقُصُ مَعهَا رَقصَةَ المطَر!
فِي إحدَى الرَّقصَاتِ كَانتَ عَينٌ ثَالثة بَينَنا؛ تُراقِبُك أو تُراقِبُنِي.. لا أدرِي!، رُبّمَا تُراقِبنَا سَويَّة!
أذكُرُ أنَّهَا خُبِّئت بِشَلالٍ أبيَض يَنزفُ مِن تَلّةٍ ثَلجِيّة، لا أحدَ يَملِكُ تَلَّةً ثَلجِيّة نَازِفَة بِهَذَا الجمَال إلا عُمدَةُ القَريةِ الذِي قَبّل جُرحِي.
وَصلَنِي هَمسٌ مِن أطفَالِ القَريةِ يَقول:
الغَجريّةُ مَلعُونَةٌ مِن عُمدَةِ القَريَة، رآهَا تَرقُصُ مَع غَجرِيّ؛ فَلعنَهُمَا مُسبقًا!